القائمة الرئيسية

الصفحات

"البناء الاجتماعي للفعل" روبرت ك. ميرتون

 

تقديم عام حول المؤلف والكتاب

يُعدّ روبرت ك. ميرتون أحد أبرز علماء الاجتماع في القرن العشرين، وقد أسهم بشكل واسع في تطوير النظرية الوظيفية البنيوية. وُلد عام 1910 وتوفي عام 2003، وارتبط اسمه بمفاهيم سوسيولوجية أساسية مثل "الأنومي" و"الوسائل والأهداف"، و"النبوءة ذاتية التحقق".

يُركّز كتابه "البناء الاجتماعي للفعل" على تحليل كيف يتشكّل الفعل الإنساني ضمن سياقات اجتماعية محددة، مستندًا إلى نقد وتطوير بعض مفاهيم النظرية الوظيفية الكلاسيكية، وخاصة كما وضعها بارسونز. يبرز ميرتون أهمية التفاعل بين البنى الاجتماعية والقيم، مع التأكيد على التعدد الوظيفي والنتائج غير المقصودة للفعل الاجتماعي.


                                                                                                                                                                                                   "إن الفعل الإنساني لا يمكن فهمه إلا في ضوء السياقات الاجتماعية التي تُحدّد إمكانياته وحدوده." – روبرت ميرتون

السياق النظري لكتاب "البناء الاجتماعي للفعل"

كُتب هذا الكتاب في سياق نقد ميرتون للنظرية البنيوية الوظيفية الكلاسيكية، خاصة في شكلها الذي طوّره تالكوت بارسونز. يرى ميرتون أن تلك النظرية كانت تميل إلى التجريد المفرط وإهمال الواقع التجريبي، إذ كانت تركّز على النظام العام أكثر من دراسة الحالات الخاصة.

وقد اقترح ميرتون منظورًا أكثر مرونة أطلق عليه النظرية متوسطة المدى، وهي نظرية تسعى إلى الربط بين الملاحظات التجريبية والنماذج العامة من دون الوقوع في العمومية المفرطة. هذا التوجه سمح بفهم أدق وأعمق للكيفية التي تتشكل بها الأفعال داخل المجتمع، بعيدًا عن اختزال الفعل إلى مجرد وظيفة داخل النظام الاجتماعي.

مفاهيم ميرتون في علم الاجتماع

ترك ميرتون أثرًا بالغًا في عدة مجالات داخل علم الاجتماع، ليس فقط من خلال كتابه هذا، بل عبر مساهماته في مفاهيم مثل:

  • الأنومي (Anomie) وتفسيره للانحراف الاجتماعي.
  • الوظيفة الظاهرة مقابل الوظيفة الكامنة.
  • النبوءة ذاتية التحقق (Self-Fulfilling Prophecy).
                                                                                                                                                                                                 "كل بناء اجتماعي للفعل لا يفترض فقط نية الفاعل، بل يقتضي فهمًا بنيويًا للسياق الذي يتحرك فيه." – ميرتون

الفعل الاجتماعي بين الفرد والبنية: الإطار النظري عند ميرتون

يعتبر ميرتون أن الفعل الاجتماعي لا يمكن عزله عن البنية الاجتماعية التي ينشأ داخلها. فكل فعل فردي هو في جوهره انعكاس لبنى ثقافية ومؤسساتية سابقة على وجود الفاعل. لكن ما يميز ميرتون هو محاولته الدؤوبة لتفسير كيفية تكيّف الأفراد مع هذه البنى أو مقاومتها، لا مجرد افتراض خضوعهم لها.

النظرية متوسطة المدى: أداة لفهم الأفعال الواقعية

من خلال هذه النظرية، حاول ميرتون تجاوز إشكالية الفجوة بين النظرية الكبرى التي تفسر كل شيء، وبين الدراسات الجزئية الميدانية التي تفتقر إلى نسق تفسيري. وبدلاً من الاكتفاء بالتعميمات الضخمة، اقترح منهجية تعتمد على:

  • دراسة أنماط الفعل داخل سياقات اجتماعية محددة.
  • فهم كيف تتفاعل القيم والمعايير مع البناءات الثقافية.
  • تحليل الاختلالات في البنى وكيف تؤدي إلى ظواهر مثل الانحراف أو التهميش.

البناء الاجتماعي والثقافي للفعل

يقسّم ميرتون البنية الاجتماعية إلى عنصرين رئيسيين:

  • الأهداف الثقافية: وهي القيم والطموحات التي يعتبرها المجتمع مشروعة (مثل النجاح، الثروة، المكانة).
  • الوسائل المؤسسية: وهي الطرق المقبولة اجتماعياً لتحقيق تلك الأهداف (مثل التعليم، العمل الجاد، الاستثمار).

وعندما يكون هناك توافق بين الأهداف والوسائل، يكون الفعل الاجتماعي مندمجًا داخل النظام. أما في حالة التوتر بين الطموحات والوسائل المتاحة (مثل الفقر أو غياب العدالة)، تنشأ أنماط من السلوك المنحرف أو المقاوم.

أنماط التكيف الخمسة (حسب ميرتون)

حدّد ميرتون خمسة أنماط لتكيّف الأفراد مع البناء الثقافي:

النمط الموقف من الأهداف الموقف من الوسائل مثال تقريبي
الامتثال قبول قبول الموظف الذي يسعى للترقي من خلال الجهد والعمل
الابتكار قبول رفض المحتال أو تاجر المخدرات الذي يحقق الثروة بطرق غير مشروعة
الطقسية رفض قبول الموظف البيروقراطي الذي يتبع القواعد دون غاية واضحة
الانسحاب رفض رفض المدمن أو المتشرد الذي ينسحب من المجتمع
التمرد استبدال استبدال الثوري أو الناشط الراديكالي

الانحراف كنتيجة لاختلال البناء

بخلاف الرؤية النفسية أو الأخلاقية للانحراف، يرى ميرتون أن الانحراف هو نتاج اجتماعي يحدث حين تُغلق الأبواب المؤسسية أمام الأفراد للوصول إلى أهدافهم، ما يدفعهم لخلق مسارات بديلة. وبالتالي فالفعل المنحرف يصبح رد فعل اجتماعي، لا خللًا فرديًا.

                                                                                                                                                                                                        "ليست الجريمة بالضرورة رفضًا للنظام القيمي، بل قد تكون تعبيرًا عن ولاء مفرط لأهدافه دون أدواته." – روبرت ميرتون

من النظرية إلى الواقع: تطبيقات ميرتون في علم الاجتماع

لم يقتصر تأثير ميرتون على الصعيد النظري فقط، بل امتد ليشكل أداة تحليلية فعّالة لفهم وتحليل قضايا اجتماعية شديدة التعقيد، مثل الجريمة، التعليم، عدم تكافؤ الفرص، وصناعة المكانة. فيما يلي بعض التطبيقات المحورية التي جعلت من ميرتون مرجعًا لا غنى عنه في علم الاجتماع.

1. تفسير الجريمة والانحراف

من خلال مفهوم "الابتكار"، يرى ميرتون أن العديد من الأفراد يسلكون طريق الجريمة ليس رفضًا لقيم المجتمع (مثل النجاح والثروة)، بل لأنهم لا يملكون الوسائل الشرعية لتحقيقها. وهكذا، يصبح الانحراف انعكاسًا لبنية مختلة، لا لخلل في شخصية الفاعل.

وهذا ما جعل العديد من الدراسات الأمريكية حول الجريمة في الأحياء الفقيرة تعتمد تحليله لفهم العلاقة بين الضغط البنيوي والفعل المنحرف.

2. النجاح التعليمي وتمثلات الفشل

فسّر ميرتون أيضًا التفاوت في النجاح الدراسي انطلاقًا من اختلاف قدرة الأفراد على الوصول إلى الوسائل التعليمية. فحين يُمجد المجتمع قيمة "النجاح الأكاديمي" كوسيلة للصعود الاجتماعي، بينما يُحرم جزء كبير من الطلبة من الوسائل الداعمة (أسرة، تمويل، جودة تعليم)، تظهر ظواهر مثل:

  • الغش كوسيلة بديلة لتحقيق النجاح.
  • الانسحاب أو الطقسية في الفصول الدراسية.
  • انخفاض الدافعية المدرسية في الفئات المهمشة.

3. فهم صراع الطبقات من منظور ثقافي

يتقاطع ميرتون مع التحليل الماركسي حين يُظهر أن الهيمنة ليست فقط اقتصادية، بل رمزية أيضًا، حيث تُفرض معايير ثقافية تُناسب الطبقات العليا، بينما تُقصى الطبقات الدنيا من أدوات تحقيق تلك المعايير. لكن بخلاف ماركس، لا يربط ميرتون الظواهر الاجتماعية فقط بالبنية الاقتصادية، بل يجعل الثقافة عنصرًا بنائيًا مستقلًا.

4. نظرية التنبؤ الذاتي (Self-fulfilling Prophecy)

قدّم ميرتون مفهوم "النبوءة التي تحقق ذاتها" لفهم كيف تؤثر التوقعات الاجتماعية في الأفعال الفردية. فحين يُصنّف فرد ما بأنه "فاشل" أو "منحرف"، يبدأ المجتمع في معاملته بناءً على هذا التصور، مما يدفعه فعليًا إلى تبني هذا السلوك، لا لذاته، بل استجابة للتصورات الخارجية.

                                                                                                                                                                                             "تصورات خاطئة تُصبح صحيحة إذا ما آمنا بها وتعاملنا على أساسها." – روبرت ميرتون

5. صدى ميرتون في علم الاجتماع المعاصر

فتحت أعمال ميرتون المجال أمام علماء الاجتماع لتطوير مقاربات توازن بين الفردي والبنيوي، وبين المعياري والوظيفي. وقد أثر بشكل خاص على:

  • نظريات الانحراف الجديدة: مثل نظرية الوسم (Labelling Theory).
  • سوسيولوجيا التعليم: خاصة في تحليل علاقة الثقافة بالمكانة.
  • التحليل الثقافي الوظيفي: حيث تدرس المعتقدات والممارسات باعتبارها أدوات للاستقرار أو التوتر البنيوي.

خاتمة تحليلية: حدود النظرية 

يشكل ميرتون أحد أبرز الوجوه التي ساهمت في إعادة هيكلة علم الاجتماع في القرن العشرين. إذ تمكن عبر تحليله للانحراف والسلوك الاجتماعي من دمج البنية والثقافة في نموذج تفسيري متماسك. إلا أن هذا الإنجاز لا يعفي نظريته من الانتقاد، خصوصًا في سياق التطورات السوسيولوجية المتسارعة اليوم.

1. أبرز نقاط القوة

  • واقعية التفسير: قدّم ميرتون تصورًا واقعيًا للسلوك الاجتماعي، لا يختزل الأفراد في الخير أو الشر، بل يربط أفعالهم بالبنى المحيطة بهم.
  • مرونة المفاهيم: كـ "الابتكار" و"الطقسية" و"النبوءة التي تحقق ذاتها"، وهي أدوات تحليلية قابلة للتطبيق في سياقات مختلفة.
  • الجمع بين النظرية والتطبيق: لم تبقَ نظريته حبيسة الأوراق، بل أثّرت فعليًا في السياسات الاجتماعية والتربوية.

2. حدود النظرية

  • إغفالها النسبي لموقع السلطة والعنف الرمزي كما أبرزه لاحقًا بيير بورديو.
  • تركزها المفرط على التوافق الاجتماعي، مقابل تهميش التحليل الصراعي والنقدي للمجتمع.
  • اعتمادها على النموذج الأمريكي الصناعي كمرجعية وحيدة، مما يصعّب أحيانًا تطبيقها في مجتمعات ذات بنيات تقليدية أو قَبَلية.

3. آفاق النظرية في علم الاجتماع المعاصر

تظل نظرية ميرتون إطارًا ملهمًا للباحثين في مجالات مثل علم الجريمة، التربية، الهجرة، وسياسات الإدماج الاجتماعي. بل إن الباحثين المعاصرين يميلون إلى تطويرها بدل تجاوزها، عبر دمجها بمفاهيم حديثة كالهيمنة الرمزية، رأس المال الثقافي، أو الهويات الاجتماعية.

                                                                                                                                                                                                           "إن التوتر الاجتماعي ليس وليد الشر، بل وليد الفجوة بين ما نطمح إليه وما نتيحه كوسائل لتحقيقه." – روبرت ميرتون

📚 اقتراحات للقراءة المكملة

  • إميل دوركايم – تقسيم العمل الاجتماعي
  • بيير بورديو – الهيمنة الذكورية، بؤس العالم
  • هوارد بيكر – الغرباء: دراسات في سوسيولوجيا الانحراف
  • ريتشارد كلورد – نظرية الفرص المتاحة
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع